غايتهم إبطال الكتاب والسنة
إن ما يميز
أهل السنة والجماعة في طرح القضايا الشرعية؛ وضوح الأسلوب والفكرة، وسهولة
الألفاظ، لأنهم يلتزمون أسلوب الشرع المطهر، ويطرحون قضاياه. فليس عندهم
دخيل على ذلك من فلسفة أو منطق مذموم، وأيضاً فإن قضاياهم لا تثير أي نوع
من البلبلة في المجتمع إذ هي قضايا الإسلام المنصوصة في الكتاب والسنة وهي
محل إجماع المجتمع السني السلفي، أيضاً هم لا ينطون على فكر شاذ أو مبدأ
مخيف ينحى أهله إلى التستر أو التلبيس .. أما أهل الأهواء والبدع وأولئك
الذين ينحرفون مع تيارات فكرية تجمع لفيفاً من البدع والأهواء؛ فلا يسعهم
إلا تعقيد الالفاظ. ولقد تفطن أولو العلم إلى هذه السمة التي يتدثر بها أهل
الباطل، فكشفوا سياستهم هذه، وأبطلوا طريقتهم هذه. فالإمام أحمد ـ رحمه
الله تعالى ـ يقول في وصف أهل الأهواء والبدع: «يتكلمون بالمتشابه من
الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم».
والمتشابه: هو الذي أشكل معناه ولم يبين مغزاه كالمجمل من الألفاظ ونحوه.
وقد دفعهم إلى ذلك: أن الإجمال والإطلاق فيما يستحق التفصيل والتبيين من
أوسع الأبواب التي يلجون منها إلى باطلهم، لأن غاية ما هم عليه: إبطال
الكتاب والسنة، فلا يستطيعون التصريح بذلك فيعدلون إلى التلميح والإيهام
الذي عن طريقه يصلون إلى بث شبههم، وفي الوقت نفسه يأمنون على أنفسهم خشية
أن يفعل بهم ما فعل بأسلافهم من قبل. والألفاظ المجملة يطلقها المحق
والمبطل، فإذا طلب التبيين ظهر المحق من المبطل.
وقد أجاد العلامة ابن القيم الجوزية ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ في الحديث عن
الإجمال عند أهل الأهواء، وما باعثه؟ وما هدفه؟ «إن هؤلاء المعارضين للكتاب
والسنة بعقلياتهم التي هي في الحقيقة جهليات، إنما يبنون أمرهم في ذلك على
أقوال محتملة تحتمل معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى،
والإجمال في اللفظ يوجب تناولها بحق وباطل، فما فيها من الحق يقل من لم يحط
بها علمًا ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يعارضون بما فيها
من الباطل نصوص الأنبياء، وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ
البدع كلها، فإن البدعة لو كانت باطلًا محضًا لما قبلت، ولبادر كل أحد إلى
ردها وإنكارها، ولو كانت حقًا محضًا لم تكن بدعة، وكانت موافقة للسنة،
ولكنها تشمل على حق وباطل، ويلبس فيها الحق بالباطل كما قال تعالى: {وَلا
تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ} فنهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه، ولبسه به خلطه به حتى
يلتبس أحدهما بالآخر، ومنه التلبيس وهو التدليس والغش الذي يكون باطنه خلاف
ظاهره، فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة
الحق، وتكلم بلفظه له معنيان: معنى صحيح ومراده باطل, فهذا من الإجمال في
اللفظ. وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان، هو حق من أحدهما، وباطل من
الآخر، فيوهم إرادة الوجه الصحيح، ويكون مراده باطل، فأصل ضلال بني آدم من
الألفاظ المجملة، والمعاني المشتبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهانا مخبطة،
فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب؟».
مثال يوضح ذلك: مما انتقده الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ
رضي الله عنه ـ قضية التحكيم. وقد استدلوا على قولهم بإبطال التحكيم بقول
الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} قالوا: إن الله نفى أن يكون
لغيره حكم، لا يجوز تحكيم الرجال في شرع الله، ومن حكم الرجال كفر. وهذا
الاستدلال منهم ظاهره أنه صحيح، لأن الله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا
لِلَّهِ}، لكن هذه الآية مبينة في آيات أخرى قضى الله فيها أن الرجال
يحكمون في قضايا، فإذا حكموا في هذه القضايا فإن ذلك التحكيم من جعل الحكم
لله وحده لأنه هو الذي أمر بذلك. قال تعالى في جزاء الصيد في الحرم:
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فحكمهم حكم من الله. وقال تعالى في
الزوجين إذا اختصما: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ
أَهْلِهَا}.
فهكذا أهل الباطل إنما يؤتون من استدلالاتهم العوجاء البعيدة عن مقاصد
الشريعة. فالإجمال مطيتهم التي يركبون في بيداء باطلهم، وزادهم الذي يقرون
به ضيفهم.