الأمن مهمة من؟
بقلم.د. عبد
السلام بن برجس آل عبد الكريم
ضرورة الأمن مثل ضرورة الأكل والشرب، فكما أن السعي مستمر كل صباح يوم
لتحصيل المأكل، والمشرب، كذلك السعي في حفظ الأمن والاستقرار.
ومن هنا فإن ايجاد الأمن والحفاظ على بقائه مسؤولية كل فرد من أفراد
المجتمع، وليس هو حملاً على فئة دون أخرى، إذ الجميع مشتركون في التلذذ به
موجوداً، ومتضررون حينما يكون مفقوداً ..
وأرى أن ذلك محل اتفاق لا يقول أحد بغيره من أبناء الإسلام ـ من الذين نور
الله بصيرتهم ـ أو يضمر خلافه، إذ هو مضمون الشرع ومقاصده الشريفة، وإجماع
أهل الفطرة السليمة، والعقول المستنيرة، ولم يتخل أحد من أهل الإسلام عن
حماية أمن بلاده وبذل ما يستطيع في ذلك، أما أهل النفاق والشقاق فهم أهل كل
دناءة وغدر، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ
الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي
الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} فلا يساعد على
إخافة المتمتع الآمن بكلمة أو ورقة أو سلاح إلا منغمص في النفاق أو الجهل،
فالمؤمن لا يروع أخاه المؤمن، ولا يشهر عليه سلاحاً، بل يعظم تلك الإخوة
ويقدسها، فيفي بجميع مطالبها، ويبتعد عن كل ما يعكرها...
لقد نظرت مرات ومرات في موقف لعلماء الإسلام الكبار: تارة بأفعالهم وأخرى
بكتاباتهم ورسائلهم، فرأيت اهتمام هؤلاء الكبار ـ رغم انشغالهم ببث العلم ـ
بالمشاركة في حفظ أمن جماعة المسلمين، ذلك لأن الحفاظ على أمن العقول
والمعتقدات واجب لا يحسن القيام به سواهم، ولو تخلوا عنه لانهدم ركن من
أركان الأمن يتهاوى تباعاً له ركن أمن الأجساد والأرزاق ...
فقيام العلماء بذلك: طوراً بالنصح لمن انحرف في معتقد ونحوه، وطوراً بالرد
على شبهات أهل الباطل، بل قد يستدعي الأمر إلى الرفع بدعاة البدع ومثيري
الفتن إلى ولي الأمر، وذلك من كمال النصح لولي الأمر وللجماعة وللمخالف
نفسه ..
وأدلة ذلك كثيرة ليس هذا موضع بسطها، منها: قال البخاري ـ رحمه الله تعالى
ـ في »صحيحه» كتاب الأدب: باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب، وعلق
عليه الحافظ ابن حجر في »فتح الباري» ناقلاً عن جميع العلماء قولهم: تباح
الغيبة في كل غرض صحيح شرعاً، حيث يتعين طريقاً إلى الوصول إليه بها..
كإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده. ا.هـ
وقال البخاري ـ أيضاً ـ: باب الصبر في الأذى. ذكر فيه حديث ابن مسعود: قسم
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قسمة، فقال رجل من الأنصار: والله إنها لقسمة
ما أريد بها وجه الله، قلت: أما لأقولن للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ،
فأتيته ـ وهو في أصحابه ـ فسارتته.. الحديث. قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا
الحديث جواز إخبار الإمام وأهل الفضل بما يقال فيهم مما لا يليق بهم
ليحذروا القائل. وفيه: بيان ما يباح من الغيبة والنميمة لأن صورتهما موجودة
في صنيع ابن مسعود هذا، ولم ينكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ذلك أن
قصد ابن مسعود كان نصح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإعلامه بمن يطعن فيه
ممن يظهر الإسلام ويبطن النفاق ليحذر منه، وهذا جائز كما يجوز التجسس على
الكفار ليؤمن من كيدهم، وقد ارتكب الرجل المذكور بما قال إثمًا عظيماً فلم
يكن له حرمة. أ.هـ
وقال البخاري ـ أيضاً ـ: باب ما يكره من النميمة، ذكر فيه عن همام قال: كنا
مع حذيفة فقيل له: إن رجلاً يرفع الحديث إلى عثمان, فقال حذيفة: سمعت رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «لا يدخل الجنة قتات»، قال النووي ـ
وعنه نقل الحافظ ابن حجرـ: وهذا كله إن لم يكن في النقل مصلحة شرعية وإلا
فهي مستحبة أو واجبة، كمن اطلع من شخص أنه يريد أن يؤذي شخصاً ظلماً فحذره
منه، وكذا من أخبر الإمام أو من له ولاية بسيرة نائبه مثلاً فلا منع من
ذلك. ا.هـ(1).
وبناء على ذلك جاء عمل علماء الإسلام الكبار: فهذا أيوب السختياني ينازل
الحسن في القدر مرات حتى خوفه من السلطان فما عاد الحسن. رواه ابن سعد في
»الطبقات» وغيره، وهذا شعبة استعدى على جعفر بن الزبير لأنه كذب على رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بل قال الإمام الشافعي: لولا شعبة ما عرف
الحديث بالعراق, كان يجئ إلى الرجل فيقول: لا تحدث وإلا استعديت عليك
السلطان، رواهما الخطيب البغدادي في باب: ذكر ما يجب على الحفاظ من بيان
أحوال الكذابين والنكير عليهم وإنهاء أمرهم إلى السلاطين. من كتابه
«الجامع«(2/168).
بعد ذلك: لا عبرة بل لا كرامة لكل إرجاف أو مرجف، لأن الإرجاف زبد يذهب
جفاء، لا يترك من أجله الأصول الثابتة حتى لو كان الثمن أي شيء ... !!
فالأمن مطلب للجميع، فليدل كل امرئ بدلوه، وإلا بطش بنا العطش ..
ــــــــــــــــــ
1) وقد كتب الشيخ رحمه الله على نسخته من المقال في هذا الموضع: «وقد
استنبط القرطبي من قوله تعالى: { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ
يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يا ...} جواز النميمة لمصلحة.
ا.هـ«.