الخيانة
الخيانة خلق
ذميم. غاية في السوء. الشرع الشريف يمقته. والعقل السليم يرفضه. والفطرة
تأباه. فيطبع المؤمن على كل خلة إلا الخيانة والكذب. فالله تعالى لا يحب
الخائنين. والله تعالى لا يهدي كيد الخائنين.
لقد منع الإسلام الخيانة منعاً مطلقاً. فأمر بأداء الأمانة، وقال: «ولا
تَخُنْ مَنْ خَانَك», فالخيانة ممنوعة أياً كان مبررها، ولهذا فإن بعض
المسلمين في مكة بعد الهجرة إلى الحبشة أرادوا أن ينتقموا من كفار قريش
بالاغتيال والغدر والاحتيال، فأنزل الله تعالى قوله: {إِنَّ اللَّهَ
يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ
خَوَّانٍ كَفُورٍ}, بل إذا كان بيننا وبين الكفار عهد ثم ظننا أنهم سيخونون
العهد، فإننا لا نغدر بهم، بل نخبرهم أننا أبطلنا حكم العهد السابق، ثم
نقاتلهم، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ
إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}, وفي
مذهب الحنابلة والمالكية أن المسلم إذا قتل معاهداً أو ذمياً غيلة فإنه
يقتل به.
فهذا هو دين الإسلام ينهى عن الخيانة بجميع صورها، ويحارب جميع مظاهرها،
لأنه دين جاء ليتمم مكارم الأخلاق، ويقضي على سفاسفها.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من الخيانة. ففي
السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ
مِنْ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ
الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ». قال الإمام الألباني:
حديث حسن.ا.هـ وسماها: البطانة لأن الخيانة أمر لا يظهره الإنسان بل يبطنه.
ومن هنا كانت الخيانة علامة للمنافق، كما في الصحيحين أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان قال: « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا
، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ
النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ
كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». وإذا كانت
الخيانة صفة المنافق فإن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: «أنا ثالثُ
الشريكَين، ما لم يَخُنْ أحدُهما صاحبَه، فإذا خانَه خرجْتُ من بينهما».
أخرجه أبو داود عن أبي هريرة. وإذا خرج الله تعالى من بينهما كان الشيطان
ثالثهما، فمحقت البركة فيما عندهما، لشؤم الخيانة وقباحتها.
إن الخيانة لا يتصف بها سوى اراذل الخلق، واسافل الناس، من عدمت فيهم
المروءات كما عدم فيهم الإيمان والطهارة.
فاليهود هم رأس الخائنين وأئمة الغادرين {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى
خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}, فكان عقابهم شديداً حيث قال
تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا
عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}.
فلا يرضى مسلم لنفسه أن يكون خائناً. وكيف يرضى بذلك وهو يقف على هذه
النصوص الشرعية؟ لا ريب أن من كان خائناً فهو ملوث الفطرة منقوص الديانة.
وكلما كانت خيانته في أمر عظيم تضاعف اثم الخيانة وفحش قبحها. فالعسكري
الذي يخون دولته وولاة أمره بعدما أقسم على كتاب الله تعالى أن لا يخون.
والمسؤول الذين يخون كذلك. والعالم. وهكذا: خيانتهم أشد وأعظم، لخطورة
مكانتهم، ولاستغلالهم ثقة ولي الأمر والمسلمين بهم استغلالاً سيئاً. فيا
ويلهم، ما أشد خسارتهم، وما أشنع ما اقترفته أيديهم {وَلَعَذَابُ
الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}.